فصل: تفسير الآية رقم (89)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ‏)‏‏:‏ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْهِ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى ‏"‏الإِيتَاءِ‏"‏ الْإِعْطَاءُ، فِيمَا مَضَى قَبْلُ‏.‏

وَ ‏"‏الكِتَابُ‏"‏ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ التَّوْرَاةُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَقْفَيْنَا‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَأَرْدَفْنَا وَأَتْبَعْنَا بَعْضَهمْ خَلْفَ بَعْضٍ، كَمَا يَقْفُو الرَّجُلُ الرَّجُلَ‏:‏ إِذَا سَارَ فِي أَثَرِهِ مِنْ وَرَائِهِ‏.‏ وَأَصْلُهُ مِنْ ‏"‏القَفَا‏"‏، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏قَفَوْتُ فُلَانًا‏:‏ إِذَا صِرْتُ خَلْفَ قَفَاهُ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏دَبَرْتُهُ‏"‏‏:‏ إِذَا صِرْتُ فِي دُبُرِهِ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مِنْ بَعْدِهِ‏)‏، مِنْ بَعْدِ مُوسَى‏.‏

وَيَعْنِي بِـ ‏(‏الرُّسُلِ‏)‏‏:‏ الْأَنْبِيَاءَ، وَهُمْ جَمْعُ ‏"‏رَسُولٍ‏"‏‏.‏ يُقَالُ‏:‏ ‏"‏هُوَ رَسُولٌ وَهُمْ رُسُلٌ‏"‏، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏هُوَ صَبُورٌ وَهُمْ قَوْمٌ صُبُرٌ، وَهُوَ رَجُلٌ شَكُورٌ وَهُمْ قَوْمٌ شُكُرٌ‏.‏

وَإِنَّمَا يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَقْفَيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ‏)‏، أَيْ أَتْبَعْنَا بَعْضَهْمْ بَعْضًا عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ وَشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ بَعْثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى زَمَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا بَعَثَهُ يَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا، وَالدُّعَاءِ إِلَى مَا فِيهَا؛ فَلِذَلِكَ قِيلَ‏:‏ ‏(‏وَقْفَيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ‏)‏، يَعْنِي عَلَى مِنْهَاجِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ‏}‏، أَعْطَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ‏.‏

وَيَعْنِي بِـ ‏"‏الْبَيِّنَاتِ‏"‏ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا‏:‏ مَا أَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالدِّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ‏:‏ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، الَّتِي أَبَانَتْ مَنْـزِلَتَهُ مِنَ اللَّهِ، وَدَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ‏}‏‏:‏ أَيِ الْآيَاتِ الَّتِي وَضَعَ عَلَى يَدَيْهِ‏:‏ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، وَالْخَبَرِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، مَعَ الْإِنْجِيلِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ أَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَأَيَّدْنَاهُ‏)‏، فَإِنَّهُ قَوَّيْنَاهُ فَأَعَنَّاهُ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضِّحَاكِ‏:‏ ‏(‏وَأَيَّدْنَاهُ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ نَصَرْنَاهُ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏أَيَّدَكَ اللَّهُ‏"‏، أَيْ قَوَّاكَ، ‏"‏وَهُوَ رَجُلٌ ذُو أَيْدٍ، وَذُو آدٍ‏"‏، يُرَادُ‏:‏ ذُو قُوَّةٍ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ‏:‏

مِنْ أَنْ تَبَدَّلَتْ بِآدِي آدَا ***

يَعْنِي‏:‏ بِشَبَابِي قُوَّةَ الْمَشِيبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرُ‏:‏

إِنَّ الْقِـدَاحَ إِذَا اجْـتَمَعْنَ فَرَامِهَـا *** بِالْكَسْـرِ ذُو جَـلَدٍ وَبَطْشٍ أَيْـدِ

يَعْنِي بِالْأَيِّدِ‏:‏ الْقَوِيُّ‏.‏

ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏بِرُوحِ الْقُدُسِ‏)‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏رُوحُ الْقُدُسِ‏"‏ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ أَيَّدَ عِيسَى بِهِ، هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏)‏ قَالَ‏:‏ هُوَ جِبْرِيلُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏)‏، قَالَ‏:‏ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضِّحَاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ رُوحُ الْقُدُسِ، جِبْرِيلُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ أُيِّدَ عِيسَى بِجِبْرِيلَ، وَهُوَ رُوحُ الْقُدُسِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْمَكِّيِّ، «عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيِّ‏:‏ أَنَّ نَفَرًا مَنَّ الْيَهُودِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا‏:‏ أَخْبِرْنَا عَنِ الرُّوحِ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ‏؟‏ وَهُوَ ‏[‏الَّذِي‏]‏ يَأْتِينِي‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَم‏)‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الرَّوْحُ الَّذِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى، هُوَ الْإِنْجِيلُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏)‏، قَالَ‏:‏ أَيَّدَ اللَّهُ عِيسَى بِالْإِنْجِيلِ رُوحًا، كَمَا جَعَلَ الْقُرْآنَ رُوحًا كِلَاهُمَا رُوحُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ عِيسَى يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏)‏، قَالَ‏:‏ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي عِيسَى بِهِ الْمَوْتَى‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏(‏الرُّوحُ‏)‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جِبْرِيلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَخْبَرَ أَنَّهُ أَيَّدَ عِيسَى بِهِ، كَمَا أَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 110‏]‏، فَلَوْ كَانَ الرَّوْحُ الَّذِي أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ هُوَ الْإِنْجِيلَ، لَكَانَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏"‏، وَ ‏{‏‏"‏إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ‏"‏‏}‏، تَكْرِيرُ قَوْلٍ لَا مَعْنَى لَهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَى ‏(‏إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏)‏، إِنَّمَا هُوَ‏:‏ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِالْإِنْجِيلِ- وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْإِنْجِيلَ، وَهُوَ لَا يَكُونُ بِهِ مُؤَيِّدًا إِلَّا وَهُوَ مُعَلِّمُهُ، فَذَلِكَ تَكْرِيرُ كَلَامٍ وَاحِدٍ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ مَعْنًى فِي أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ‏.‏ وَذَلِكَ خَلْفٌ مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُخَاطِبَ عِبَادَهُ بِمَا لَا يُفِيدُهُمْ بِهِ فَائِدَةً‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ‏"‏الرُّوحَ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْإِنْجِيلُ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَوْحَاهَا إِلَى رُسُلِهِ رُوحًا مِنْهُ لِأَنَّهَا تَحْيَا بِهَا الْقُلُوبُ الْمَيِّتَةُ، وَتَنْتَعِشُ بِهَا النُّفُوسُ الْمُوَلِّيَةُ، وَتَهْتَدِي بِهَا الْأَحْلَامُ الضَّالَّةُ‏.‏

وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ ‏"‏رُوحًا‏"‏ وَأَضَافَهُ إِلَى ‏"‏القُدْسِ‏"‏، لِأَنَّهُ كَانَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ لَهُ رَوْحًا مِنْ عِنْدِهِ، مِنْ غَيْرِ وِلَادَةِ وَالِدٍ وَلَدَهُ، فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ‏"‏رُوحًا‏"‏، وَأَضَافَهُ إِلَى ‏"‏القُدْسِ‏"‏- و‏"‏الْقُدْسُ‏"‏، هُوَ الطُّهْرُ- كَمَا سُمِّيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ‏"‏رُوحًا‏"‏ لِلَّهِ مِنْ أَجْلِ تَكْوِينِهِ لَهُ رُوحًا مِنْ عِنْدِهِ مِنْ غَيْرِ وِلَادَةِ وَالِدٍ وَلَدَهُ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، أَنَّ مَعْنَى ‏"‏التَّقْدِيسِ‏"‏‏:‏ التَّطْهِيرُ، و‏"‏الْقُدْسُ‏"‏- الطُّهْرُ، مِنْ ذَلِكَ‏.‏ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَحْوَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ الْقُدْسُ، الْبَرَكَةُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ الْقُدْسُ، وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏(‏وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏)‏، قَالَ‏:‏ اللَّهُ، الْقُدْسُ، وَأَيَّدَ عِيسَى بِرُوحِهِ، قَالَ‏:‏ نَعَتُ اللَّهِ الْقُدْسُ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ‏}‏ ‏[‏الْحَشْرِ‏:‏ 23‏]‏، قَالَ‏:‏ الْقُدْسُ وَالْقُدُّوسُ، وَاحِدٌ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، ‏[‏عَنْ هِلَالٍ‏]‏ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ‏:‏ قَالَ كَعْبٌ‏:‏ اللَّهُ، الْقُدْسُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ‏}‏، الْيَهُودَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لَهُمْ‏:‏ يَا مَعْشَرَ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ، وَتَابَعْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ إِلَيْكُمْ، وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجَ، إِذْ بَعَثْنَاهُ إِلَيْكُمْ، وَقَوَّيْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَأَنْتُمْ كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ رُسُلِي بِغَيْرِ الَّذِي تَهْوَاهُ نُفُوسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ عَلَيْهِمْ- تَجَبُّرًا وَبَغْيًا- اسْتِكْبَارَ إِمَامِكُمْ إِبْلِيسَ، فَكَذَّبْتُمْ بَعْضًا مِنْهُمْ، وَقَتَلْتُمْ بَعْضًا‍‍‍‏!‏ فَهَذَا فِعْلُكُمْ أَبَدًا بِرُسُلِي‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَفَكَلِمًا‏)‏، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّقْرِيرِ فِي الْخِطَابِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْخَبَرُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏ فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا قُلُوبَنَا غُلْفٌ‏)‏ مُخَفَّفَةَ اللَّامِ سَاكِنَةً‏.‏ وَهِيَ قِرَاءَةٌ عَامَّةِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ‏.‏ وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏وَقَالُوا قُلُوبَنَا غُلُفٌ‏"‏ مُثَقَّلَةَ اللَّامِ مَضْمُومَةً‏.‏

فَأَمَّا الَّذِينَ قَرَأُوهَا بِسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا، فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوهَا، أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ وَأَغْطِيَةٍ وَغُلُفٍ‏.‏ و‏"‏الْغُلْفُ‏"‏-عَلَى قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ- جَمْعُ‏"‏أَغْلَفَ‏"‏، وَهُوَ الَّذِي فِي غِلَافٍ وَغِطَاءٍ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَخْتَتِنُ‏"‏أَغْلَفُ‏"‏، وَالْمَرْأَةُ‏"‏غَلْفَاءُ‏"‏‏.‏ وَكَمَا يُقَالُ لِلسَّيْفِ إِذَا كَانَ فِي غِلَافِهِ‏:‏ ‏"‏سَيْفٌ أَغْلَفُ‏"‏، وَقَوْسٌ غَلْفَاءُ‏"‏ وَجَمْعُهُمَا‏"‏غُلْفٌ‏"‏، وَكَذَلِكَ جَمْعُ مَا كَانَ مِنَ النُّعُوتِ ذَكَرُهُ عَلَى‏"‏أَفْعَلَ‏"‏ وَأَنَّثَاهُ عَلَى‏"‏فَعَلَاءَ‏"‏، يُجْمَعُ عَلَى‏"‏فُعْلٍ‏"‏ مَضْمُومَةَ الْأَوَّلِ سَاكِنَةَ الثَّانِي، مِثْلَ‏:‏ ‏"‏أَحْمَرُ وَحُمْرٌ، وَأَصْفَرُ وَصُفْرٌ‏"‏، فَيَكُونُ ذَلِكَ جُمَاعًا لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ‏.‏ وَلَا يَجُوزُ تَثْقِيلُ عَيْنِ‏"‏فُعْلٍ‏"‏ مِنْهُ، إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ، كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ‏:‏

أَيُّهَـا الْفِتْيَـانُ فِـي مَجْلِسِـنَا *** جَـرِّدُوا مِنْهَـا وِرَادًا وشُـقُرْ

يُرِيدُ‏:‏ شُقْرًا، إِلَّا أَنَّ الشِّعْرَ اضْطَرَّهُ إِلَى تَحَرِيكِ ثَانِيهِ فَحَرَّكَهُ‏.‏ وَمِنْهُ الْخَبَرُ الَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُكْمُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَلْمَانَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمَلَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُمَلِيُّ، عَنْ أَبِي الْبُخْتِرِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ- ثُمَّ ذَكَرَهَا- فَقَالَ فِيمَا ذَكَرَ‏:‏ وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَعْصُوبٌ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، يَعْنِي أَنَّهَا فِي أَغْطِيَة‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا قُلُوبَنَا غُلْفٌ‏)‏، أَيْ فِي أَكِنَّةٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، أَيْ فِي غِطَاءٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، فَهِيَ الْقُلُوبُ الْمَطْبُوعُ عَلَيْهَا‏.‏

حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شَرَّيْكٌ عَنِ الْأَعْمَشِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، قَالَ‏:‏ هِيَ فِي غُلُفٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، أَيْ لَا تَفْقَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 5‏]‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏ قَالَ‏:‏ عَلَيْهَا طَابَعٌ، قَالَ‏:‏ هُوَ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏(‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، أَيْ لَا تَفْقَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، قَالَ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ عَلَيْهَا غِلَافٌ، وَهُوَ الْغِطَاءُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ قَلْبِي فِي غِلَافٍ، فَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ مِمَّا تَقُولُ شَيْء، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 5‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَأُوهَا ‏"‏غُلُفٌ‏"‏ بِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَضَمِّهَا، فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوهَا أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ قُلُوبُنَا غُلُّفٌ لِلْعِلْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ‏.‏

قَالَ‏:‏ و‏"‏الْغُلُفُ‏"‏ عَلَى تَأْوِيلِ هَؤُلَاءِ جَمْعُ‏"‏غِلَافٍ‏"‏‏.‏ كَمَا يُجْمَعُ ‏"‏الكِتَابُ‏:‏ كُتُبٌ، وَالْحِجَابُ‏:‏ حُجُبٌ، وَالشِّهَابُ‏:‏ شُهُبٌ‏.‏ فَمَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ‏"‏غُلُفٌ‏"‏ بِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَضَمِّهَا، وَقَالَتِ الْيَهُودُ‏:‏ قُلُوبُنَا غَلُفٌ لِلْعِلْمِ، وَأَوْعِيَةٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، قَالَ‏:‏ أَوْعِيَةٌ لِلذِّكْرِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ الْأَسَدِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ مِثْلَهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، قَالَ‏:‏ مَمْلُوءَةٌ عِلْمًا، لَا تَحْتَاجُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ‏.‏

وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏، هِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ‏(‏غُلْفٌ‏)‏ بِتَسْكِينِ اللَّامِ- بِمَعْنَى أَنَّهَا فِي أَغْشِيَةٍ وَأَغْطِيَةٍ؛ لِاجْتِمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ وَأَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا، وَشُذُوذُ مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ بِمَا خَالَفَهُ، مِنْ قِرَاءَةِ ذَلِكَ بِضَمِّ ‏"‏اللَّامِ‏"‏‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْحُجَّةُ مُتَّفِقَةً عَلَيْهِ، حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ‏.‏ وَمَا جَاءَ بِهِ الْمُنْفَرِدُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ نَقْلًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ‏)‏، بَلْ أَقْصَاهُمُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُمْ وَطَرَدَهُمْ وَأَخْزَاهُمْ وَأَهْلَكَهُمْ بِكُفْرِهِمْ، وَجُحُودِهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَمَا ابْتَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَتَكْذِيبِهِمْ أَنْبِيَاءَهُ‏.‏ فَأَخْبَرَ-تَعَالَى ذِكْرُهُ- أَنَّهُ أَبْعَدَهُمْ مِنْهُ وَمَنْ رَحِمَتِهِ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏اللَّعْنِ‏"‏ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ وَالْإِقْصَاءُ يُقَالُ‏:‏ ‏"‏لَعَنَ اللَّهُ فُلَانًا يَلْعَنُهُ لَعْنًا، وَهُوَ مَلْعُونٌ‏"‏‏.‏ ثُمَّ يُصْرَفُ‏"‏مَفْعُولٌ‏"‏‏:‏ فَيُقَالُ‏:‏ هُوَ‏"‏لَعِينٌ‏"‏‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ بْنِ ضِرَارٍ‏:‏

ذَعَـرْتُ بِـهِ الْقَطَـا وَنَفَيْـتُ عَنْـهُ *** مَكَـانَ الـذِّئْبِ كَـالرَّجُلِ اللَّعِيـنِ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ‏}‏ تَكْذِيبٌ مِنْهُ لِلْقَائِلِينَ مِنَ الْيَهُودِ‏:‏ ‏(‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏)‏؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏بَلْ‏)‏ دِلَالَة عَلَى جَحْدِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ وَإِنْكَارِهِ مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ؛ إِذْ كَانَتْ ‏"‏بَلْ‏"‏ لَا تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا نَقْضًا لِمَجْحُودٍ‏.‏ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ‏:‏ قُلُوبُنَا فِي أُكْنَةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَا ذَلِكَ كَمَا زَعَمُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَقْصَى الْيَهُودَ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَطَرَدَهُمْ عَنْهَا، وَأَخْزَاهُمْ بِجُحُودِهِمْ لَهُ وَلِرُسُلِهِ، فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏)‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ، مَعْنَاهُ فَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمَنُ، أَيْ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏}‏، فَلَعَمْرِي لِمَنْ رَجَعَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ أَكْثَرُ مِمَّنْ رَجَعَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِنَّمَا آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ رَهْطٌ يَسِيرٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏)‏، قَالَ‏:‏ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِقَلِيلٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏)‏، قَالَ‏:‏ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏.‏ قَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِقَلِيلٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏)‏ بِالصَّوَابِ، مَا نَحْنُ مُتْقِنُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَخْبَرَ أَنَّهُ لَعَنَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَلِيلُو الْإِيمَانِ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَلِذَلِكَ نَصَبَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏فَقَلِيلًا‏)‏، لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَتْرُوكِ ذِكْرُهُ‏.‏ وَمَعْنَاهُ‏:‏ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، فَإِيمَانًا قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ، فَقَدْ تَبَيَّنَ إذًا بِمَا بَيَّنَّا فَسَادُ الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ، لَوْ كَانَ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ فَلَا يُؤْمَنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، أَوْ فَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، لَكَانَ ‏"‏القَلِيلُ‏"‏ مَرْفُوعًا لَا مَنْصُوبًا‏.‏ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ تَأْوِيلَهُ، كَانَ ‏"‏القَلِيلُ‏"‏ حِينَئِذٍ مُرَافِعًا‏"‏مَا‏"‏‏.‏ فَإِذْ نُصِبَ ‏"‏الْقَلِيلُ‏"‏- وَ‏"‏مَا‏"‏ فِي مَعْنَى ‏"‏مَنْ‏"‏ أَوْ ‏"‏الَّذِي‏"‏- ‏[‏فَقَدْ‏]‏ بَقِيَتْ ‏"‏مَا‏"‏ لَا مُرَافِعَ لَهَا‏.‏ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ‏.‏

فَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ‏"‏مَا‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏)‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ زَائِدَةٌ لَا مَعْنَى لَهَا، وَإِنَّمَا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ فَقَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏]‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَزَعَمَ أَنَّ‏"‏مَا‏"‏ فِي ذَلِكَ زَائِدَةٌ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ مُحْتَجًّا لِقَوْلِهِ ذَلِكَ- بَيْتَ مُهَلْهَلَ‏:‏

لَـوْ بَأَبَـانِينَ جَـاءَ يَخْطُبُهَـا *** خُـضِبَ مَـا أَنْـفُ خَـاطِبٍ بِـدَمِ

وَزَعَمَ أَنَّهُ يَعْنِي‏:‏ خُضِبَ أَنْفُ خَاطِبٍ بِدَمِ، وَأَنْ‏"‏مَا‏"‏ زَائِدَةٌ‏.‏

وَأَنْكَرَ آخَرُونَ مَا قَالَهُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي‏"‏مَا‏"‏، فِي الْآيَةِ وَفِي الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَهُ، وَقَالُوا‏:‏ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ بِالْخَبَرِ عَنْ عُمُومِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، إِذْ كَانَتْ‏"‏مَا‏"‏ كَلِمَةً تَجْمَعُ كُلَّ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ تَخُصُّ وَتَعُمُّ مَا عَمَّتْهُ بِمَا تَذَكْرُهُ بَعْدَهَا‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَا لَا يُفِيدُ مِنَ الْكَلَامِ مَعْنًى فِي الْكَلَامِ غَيْرُ جَائِزٍ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏.‏

وَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يَقُولَ‏:‏ هَلْ كَانَ لِلَّذِينِ أَخْبَرْ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ- مِنَ الْإِيمَانِ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ، فَيُقَالُ فِيهِمْ‏:‏ ‏"‏فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏"‏‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّمَعْنَى ‏"‏الإِيمَانِ‏"‏هُوَ التَّصْدِيقُ، وَقَدْ كَانَتِ الْيَهُودُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا هَذَا الْخَبَرَ تُصَدِّقُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَبِالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَتَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي كُتُبِهِمْ، وَمِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى، فَصَدَّقُوا بِبَعْضٍ- وَذَلِكَ هُوَ الْقَلِيلُ مِنْ إِيمَانِهِمْ- وَكَذَّبُوا بِبَعْضٍ، فَذَلِكَ هُوَ الْكَثِيرُ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ‏:‏ إِنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏(‏فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ‏)‏، وَهُمْ بِالْجَمِيعِ كَافِرُونَ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ‏:‏ ‏"‏قَلَّمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ‏"‏‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا سَمَاعًا مِنْهَا‏:‏ مَرَرْتُ بِبِلَادٍ قَلَّمَا تَنْبِتُ إِلَّا الْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ مَا تُنْبِتُ غَيْرَ الْكُرَّاثِ وَالْبَصَلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُنْطَقُ بِهِ بِوَصْفِ الشَّيْءِ بِـ ‏"‏الْقِلَّةِ‏"‏، وَالْمَعْنَى فِيهِ نَفْيُ جَمِيعِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِمَا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ‏}‏، وَلَمَا جَاءَ الْيَهُودَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ وَصَفَ-جَلَّ ثَنَاؤُه-ُ صِفَتَهمْ- ‏(‏كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏)‏ يَعْنِي بِـ ‏"‏الْكِتَابِ‏"‏ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْـزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏(‏مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ‏)‏، يَعْنِي مُصَدِّقٌ لِلَّذِي مَعَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْـزَلَهَا اللَّهُ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ‏}‏، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ‏}‏، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، أَيْ‏:‏ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ- الَّذِينَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْـزَلَهَا اللَّهُ قَبْلَ الْفُرْقَانِ، كَفَرُوا بِهِ- يَسْتَفْتِحُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى ‏"‏الاسْتِفْتَاحِ‏"‏، الِاسْتِنْصَارُ يَسْتَنْصِرُونَ اللَّهَ بِهِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ قَبْلِ مَبْعَثِهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُبْعَثَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ قَالُوا‏:‏ فِينَا وَاللَّهِ وَفِيهِمْ- يَعْنِي فِي الْأَنْصَارِ، وَفِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا جِيرَانَهُمْ- نَـزَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ يَعْنِي‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ قَالُوا‏:‏ كُنَّا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ دَهْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ- وَنَحْنُ أَهْلُ الشِّرْكِ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ- فَكَانُوا يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ نَبِيًّا الْآنَ مَبْعَثُهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، يَقْتُلُكُمْ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ رَسُولَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَاتَّبَعْنَاهُ، كَفَرُوا بِهِ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّ يَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَرَبِ، كَفَرُوا بِهِ، وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ‏.‏ فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ‏:‏ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقَوْا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا، فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ، وَتُخْبِرُونَنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ‏!‏ فَقَالَ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ أَخُو بَنِي النَّضِيرِ‏:‏ مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا هُوَ بِالَّذِي كُنَّا نَذْكُرُ لَكُمْ‏!‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِمَا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَّفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ يَسْتَنْصِرُونَ بِخُرُوجِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ- يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ- فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَفَرُوا بِهِ وَحَسَدُوهُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَلِيِّ الْأَزْدِيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ الْيَهُودُ، كَانُوا يَقُولُونَ‏:‏ اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنَا هَذَا النَّبِيَّ يَحْكُمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ، يَسْتَفْتِحُونَ- يَسْتَنْصِرُونَ- بِهِ عَلَى النَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَلِيِّ الْأَزْدِيِّ- وَهُوَ الْبَارِقِيِّ- فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلٍ يَسْتَفْتِحُونَ‏)‏، فَذَكَرَ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، كَانَتِ الْيَهُودُ تَسْتَفْتِحُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُفَّارِ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ، وَقَالُوا‏:‏ اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ يُعَذِّبُهُمْ وَيَقْتُلُهُمْ‏!‏ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوْا أَنَّهُ بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ‏:‏ كَانَتِ الْيَهُودُ تَسْتَنْصِرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، يَقُولُونَ‏:‏ اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا حَتَّى يُعَذِّبَ الْمُشْرِكِينَ وَيَقْتُلَهُمْ‏!‏ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، وَرَأَوْا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‍‏!‏ فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ كَانَتِ الْعَرَبُ تَمُرُّ بِالْيَهُودِ فَيُؤْذُونَهُمْ، وَكَانُوا يَجِدُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ، وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَهُ فَيُقَاتِلُوا مَعَهُ الْعَرَبَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ كَفَرُوا بِهِ، حِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِعَطَاءٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى كَفَّارِ الْعَرَبِ بِخُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ‏.‏ فَلَمَّا خَرَجَ وَرَأَوْهُ لَيْسَ مِنْهُمْ، كَفَرُوا وَقَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ النَّبِيُّ‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ حَدَّثَنَا ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ يَسْتَفْتِحُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ- يَخْرُجُ‏.‏ ‏(‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا‏)‏-وَكَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ- كَفَرُوا بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ- وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى كُفَّارِ الْعَرَبِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الْحِمَّانِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي شُرَيْكٌ، عَنْ أَبِي الْجِحَافِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطَيْنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُمُ الْيَهُودُ عَرَفُوا مُحَمَّدًا أَنَّهُ نَبِيٌّ وَكَفَرُوا بِهِ‏.‏

حُدِّثَتْ عَنِ الْمِنْجَابِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا يَسْتَظْهِرُونَ، يَقُولُونَ‏:‏ نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، يَكْذِبُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، سَأَلَتْ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ كَانَتْ يَهُودُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى كُفَّارِ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ‏:‏ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قَدْ جَاءَ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى، أَحْمَد، لَكَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ‏!‏ وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَالْعَرَبُ حَوْلَهُمْ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَيَسْتَنْصِرُونَ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَّفُوا كَفَرُوا بِهِ وَحَسَدُوهُ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 109‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ، فَمِنْ هُنَالِكَ نَفْعَ اللَّهُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ بِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُمْ أَنَّ نَبِيًّا خَارِجٌ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل‏:‏ فَأَيْنَ جَوَابُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ‏}‏‏؟‏

قِيلَ‏:‏ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَوَابِهِ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ مِمَّا تُرِكَ جَوَابُهُ، اسْتِغْنَاءً بِمَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ بِمَعْنَاهُ، وَبِمَا قَدْ ذُكِرَ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ‏.‏ وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ إِذَا طَالَ الْكَلَامُ، فَتَأْتِي بِأَشْيَاءَ لَهَا أَجْوِبَةٌ، فَتَحْذِفُ أَجْوِبَتَهَا، لِاسْتِغْنَاءِ سَامِعِيهَا- بِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَعْنَاهَا- عَنْ ذِكْرِ الْأَجْوِبَةِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الرَّعْدِ‏:‏ 31‏]‏، فَتَرَكَ جَوَابَهُ‏.‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ ‏"‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سِوَى هَذَا الْقُرْآنِ سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ لَسُيِّرَتْ بِهَذَا الْقُرْآنِ- اسْتِغْنَاءً بِعِلْمِ السَّامِعِينَ بِمَعْنَاهُ‏.‏‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ جَوَابُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ فِي ‏"‏الفَاءِ‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏، وَجَوَابُ الْجَزَاءَيْنِ فِي‏"‏كَفَرُوا بِهِ‏"‏، كَقَوْلِكَ‏:‏ ‏"‏لَمَّا قُمْتَ، فَلَمَّا جِئْتِنَا أَحَسَنْتَ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ لَمَّا جِئْتَنَا إِذْ قُمْتَ أَحْسَنْتَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى اللَّعْنَةِ، وَعَلَى مَعْنَى ‏"‏الكُفْرِ‏"‏، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةِ‏.‏

فَمَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ فَخِزْيُ اللَّهُ وَإِبْعَادُهُ عَلَى الْجَاحِدِينَ مَا قَدْ عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ وَلِأَنْبِيَائِهِ، الْمُنْكِرِينَ لِمَا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي إِخْبَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْيَهُودِ- بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏- الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا الْكُفْرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِنَبُّوتِهِ عَلَيْهِمْ، وَقَطْعِ اللَّهِ عُذْرَهُمْ بِأَنَّهُ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ بَغْيًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَمَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ‏}‏‏:‏ سَاءَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ‏.‏

وَأَصْلُ‏"‏بِئْسَ‏"‏ ‏"‏بَئِسَ‏"‏ مِنْ ‏"‏البُؤْسِ‏"‏، سُكِّنَتْ هَمْزَتُهَا، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى ‏"‏البَاءِ‏"‏، كَمَا قِيلَ فِي‏"‏ظَلِلْتَ‏"‏‏"‏ظَلْتَ‏"‏، وَكَمَا قِيلَ‏"‏لِلْكَبِدِ‏"‏، ‏"‏كِبْدٌ‏"‏- فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ ‏"‏البَاءِ‏"‏ إِلَى ‏"‏الكَافِ‏"‏ لِمَا سُكِّنَتِ ‏"‏البَاءُ‏"‏‏.‏

وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ‏"‏بِئْسَ‏"‏، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا‏"‏بَئِسَ‏"‏، مِنْ لُغَةِ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ حَرَكَةَ الْعَيْنِ مِنْ‏"‏فَعِلَ‏"‏ إِلَى الْفَاءِ، إِذَا كَانْتْ عَيْنُ الْفِعْلِ أَحَدَ حُرُوفِ الْحَلْقِ السِّتَّةِ، كَمَا قَالُوا مِنْ‏"‏لَعِبَ‏"‏ ‏"‏لِعْبَ‏"‏، وَمَنْ‏"‏سَئِمَ‏"‏ ‏"‏سِئْمَ‏"‏، وَذَلِكَ-فِيمَا يُقَالُ- لُغَةٌ فَاشِيَّةٌ فِي تَمِيمٍ‏.‏

ثُمَّ جُعِلَتْ دَالَّةً عَلَى الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ، وَوُصِلَتْ بِـ ‏"‏مَا‏"‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى‏"‏مَا‏"‏ الَّتِي مَعَ‏"‏بِئْسَمَا‏"‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ هِيَ وَحْدَهَا اسْمٌ، وَ‏"‏أَنْ يَكْفُرُوا‏"‏ تَفْسِيرٌ لَهُ، نَحْوَ‏:‏ نَعِمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَ‏"‏أَنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ ‏"‏ بَدَلٌ مِنْ‏"‏أَنْـزَلَ اللَّهُ‏"‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ بِئْسَ الشَّيْءُ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا، فَـ‏"‏مَا‏"‏ اسْمُ‏"‏بِئْسَ‏"‏، وَ‏"‏أَنْ يَكْفُرُوا‏"‏ الِاسْمُ الثَّانِي، وَزَعَمَ أَنَّ‏:‏ ‏"‏أَنْ يَكْفُرُوا‏"‏ إِنْ شِئْتَ جَعَلَتَ‏"‏أَنْ‏"‏ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَإِنْ شِئْتَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، أَمَّا الرَّفْعُ‏:‏ فَبِئْسَ الشَّيْءُ هَذَا أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَأَمَّا الْخَفْضُ‏:‏ فَبِئْسَ الشَّيْءُ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ بَغْيًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 80‏]‏ كَمَثَلِ ذَلِكَ، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ‏"‏مَا‏"‏ وَحْدَهَا فِي هَذَا الْبَابِ بِمَنْـزِلَةِ الِاسْمِ التَّامِّ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَنِعِمَّا هِيَ‏)‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 271‏]‏، و‏"‏بِئْسَمَا أَنْتَ‏"‏، وَاسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِرِجَزِ بَعْضِ الرُّجَّازِ‏:‏

لَا تَعْجَـلَا فـي السَّـيْرِ وَادْلُوهَـا *** لَبِئْسَـمَا بَـطْءٌ وَلَا نَرْعَاهَـا

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ لَبِئْسَمَا تَزْوِيجٌ وَلَا مَهْرٌ‏"‏، فَيَجْعَلُونَ‏"‏مَا‏"‏ وَحْدَهَا اسْمًا بِغَيْرِ صِلَةٍ، وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَا يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَلِي‏"‏بِئْسَ‏"‏ مَعْرِفَةً مُوَقَّتَةً، وَخَبَرُهُ مَعْرِفَةٌ مُوَقَّتَةٌ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ ‏"‏بِئْسَمَا‏"‏ بِمَنْـزِلَةِ‏:‏ بِئْسَ الشَّيْءُ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ؛ فَقَدْ صَارَتْ ‏"‏مَا‏"‏ بِصِلَتِهَا اسْمًا مُوَقَّتًا؛ لِأَنَّ‏"‏اشْتَرَوْا‏"‏ فِعْلٌ مَاضٍ مِنْ صِلَةِ‏"‏مَا‏"‏، فِي قَوْلِ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ‏.‏ وَإِذَا وُصِلَتْ بِمَاضٍ مِنَ الْفِعْلِ، كَانَتْ مَعْرِفَةً مُوَقَّتَةً مَعْلُومَةً، فَيَصِيرُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ ‏"‏بِئْسَ شِرَاؤُهُمْ كُفْرُهُمْ‏"‏‏.‏ وَذَلِكَ عِنْدَهُ غَيْرُ جَائِزٍ‏:‏ فَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ‏.‏

وَكَانَ آخَرُ مِنْهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ ‏"‏أَنْ‏"‏ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ إِنْ شِئْتَ، وَرَفْعٍ إِنْ شِئْتَ‏!‏ فَأَمَّا الْخَفْضُ‏:‏ فَأَنْ تَرُدَّهُ عَلَى ‏"‏الْهَاءِ‏"‏ الَّتِي فِي ‏"‏بِهِ‏"‏ عَلَى التَّكْرِيرِ عَلَى كَلَامَيْنِ‏:‏ كَأَنَّكَ قُلْتَ‏:‏ اشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ‏:‏ فَأَنْ يَكُونَ مَكْرُورًا عَلَى مَوْضِعِ ‏"‏مَا‏"‏ الَّتِي تَلِي‏"‏بِئْسَ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى قَوْلِك‏:‏ ‏"‏بِئْسَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏بِئْسَمَا‏"‏ شَيْءٌ وَاحِدٌ يُرَافِعُ مَا بَعْدَهُ كَمَا حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ‏:‏ ‏(‏بِئْسَمَا تَزْوِيجٌ وَلَا مَهْرَ‏)‏ فَرَافِعُ ‏"‏تَزْوِيجٍ‏"‏ ‏"‏بِئْسَمَا‏"‏، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏بِئْسَمَا زَيْدٌ، وَبِئْسَ مَا عَمْرٌو‏)‏، فَيَكُونُ ‏"‏بِئْسَمَا‏"‏ رَفَعًا بِمَا عَادَ عَلَيْهَا مِنْ ‏"‏الهَاءِ‏"‏‏.‏ كَأَنَّكَ قُلْتَ‏:‏ بِئْسَ شَيْءٌ الشَّيْءُ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَتَكُونُ ‏"‏أَنْ‏"‏ مُتَرْجَمَةٌ عَنْ‏"‏بِئْسَمَا‏"‏‏.‏

وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ جَعَلَ ‏"‏بِئْسَمَا‏"‏ مَرْفُوعًا بِالرَّاجِعِ مِنْ ‏"‏الْهَاءِ‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏اشْتَرَوْا بِهِ‏)‏، كَمَا رَفَعُوا ذَلِكَ بِـ ‏"‏عَبْدُ اللَّهِ‏"‏ إِذْ قَالُوا‏:‏ ‏"‏بِئْسَمَا عَبْدُ اللَّهِ‏"‏، وَجَعَلَ ‏"‏أَنْ يَكْفُرُوا‏"‏ مُتَرْجَمَةٌ عَنْ‏"‏بِئْسَمَا‏"‏‏.‏ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ بِئْسَ الشَّيْءُ بَاعَ الْيَهُودُ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، كُفْرُهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ بَغْيًا وَحَسَدًا أَنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَتَكُونُ ‏"‏أَنْ‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ‏)‏، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْنِي بِهِ ‏"‏أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ ‏"‏ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏.‏ مَوْضِعُ ‏"‏أَنْ‏"‏ جَزَاءٌ‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَزْعُمُ أَنَّ ‏"‏أَنْ‏"‏ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِنِيَّةِ ‏"‏الْبَاءِ‏"‏، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا فِيهَا النَّصْبَ لِتَمَامِ الْخَبَرِ قَبْلَهَا، وَلَا خَافِضَ مَعَهَا يَخْفِضُهَا‏.‏ وَالْحَرْفُ الْخَافِضُ لَا يِخْفِضُ مُضْمَرًا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ ‏"‏أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ بَغْيًا‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ‏}‏، يَهُودُ، شَرَوْا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَكِتْمَانِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَيِّنُوهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ ‏"‏شَرَيْتُهُ‏"‏، بِمَعْنَى بِعْتُهُ، و‏"‏اشْتَرَوْا‏"‏، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، ‏"‏افْتَعَلُوا‏"‏ مَنْ ‏"‏شَرَيْتُ‏"‏‏.‏ وَكَلَامُ الْعَرَبِ-فِيمَا بَلَغَنَا- أَنْ يَقُولُوا‏:‏ ‏"‏شَرَيْتُ‏"‏ بِمَعْنَى‏:‏ بِعْتُ، و‏"‏اشْتَرَيْتُ‏"‏ بِمَعْنَى‏:‏ ابْتَعْتُ، وَقِيلَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّي ‏"‏الشَّارِي‏"‏، ‏"‏شَارِيًا‏"‏، لِأَنَّهُ بَاعُ نَفْسَهُ وَدُنْيَاهُ بِآخِرَتِهِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ مُفَرِّغِ الْحِمَيْرِيِّ‏:‏

وَشَـرَيْتُ بُـرْدًا لَيْتَنِـي *** مِـنْ قَبْـلِ بُـرْدٍ كُـنْتُ هَامَـهْ

وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُسَيَّبِ بْنِ عَلَسٍ‏:‏

يُعْطَـى بِهَـا ثَمَنًـا فَيَمْنَعُهَـا *** وَيَقُـولُ صَاحِبُهَـا أَلَا تَشْـرِي‏؟‏

يَعْنِي بِهِ‏:‏ بِعْتُ بُرْدًا‏.‏ وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ ‏"‏اشْتَرَيْتُ‏"‏ بِمَعْنَى‏:‏ بِعْتُ، و‏"‏شَرَيْتُ‏"‏ فِي مَعْنَى‏:‏ ‏"‏ابْتَعْتُ‏"‏‏.‏ وَالْكَلَامُ الْمُسْتَفِيضُ فِيهِمْ هُوَ مَا وَصَفْتُ‏.‏

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏بَغْيًا‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ تَعَدِّيًا وَحَسَدًا، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏بَغْيًا‏)‏، قَالَ‏:‏ أَيْ حَسَدًا، وَهُمُ الْيَهُودُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏بَغْيًا‏)‏، قَالَ‏:‏ بَغَوْا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسَدُوهُ، وَقَالُوا‏:‏ إِنَّمَا كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَا بَالُ هَذَا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ‏؟‏‍‏!‏ فَحَسَدُوهُ أَنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏(‏بَغْيًا‏)‏، يَعْنِي‏:‏ حَسَدًا أَنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ مَنْ فَضَّلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الْيَهُودُ كَفَرُوا بِمَا أُنْـزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حُدِّثَتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَمَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ بِئْسَ الشَّيْءُ بَاعُوا بِهِ أَنْفُسُهُمْ، الْكُفْرُ بِالَّذِي أَنْـزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى مُوسَى- مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَمْرُ بِتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ- مِنْ أَجْلِ أَنْ أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَفَضْلُهُ‏:‏ حِكْمَتُهُ وَآيَاتُهُ وَنَبُّوتُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ- يَعْنِي بِهِ‏:‏ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَغْيًا وَحَسَدًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مَنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ بَاعَتِ الْيَهُودُ أَنْفُسَهَا بِالْكُفْرِ، فَقِيلَ‏:‏ ‏{‏بِئْسَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ‏}‏‏؟‏ وَهَلْ يُشْتَرَى بِالْكُفْرِ شَيْء‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّمَعْنَى‏:‏ ‏(‏الشِّرَاءِ‏)‏ وَ ‏"‏البَيْعِ‏"‏ عِنْدَ الْعَرَبِ، هُوَ إِزَالَةُ مَالِكٍ مِلْكَهُ إِلَى غَيْرِهِ، بَعَوْضٍ يَعْتَاضُهُ مِنْهُ‏.‏ ثُمَّ تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُعْتَاضٍ مِنْ عَمَلِهِ عِوَضًا، شَرًّا أَوْ خَيْرًا، فَتَقُولُ‏:‏ ‏"‏نَعِمَ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ نَفْسُهُ‏"‏ و‏"‏بِئْسَ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ نَفْسَهُ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ نِعْمَ الْكَسْبُ أَكْسَبَهَا، وَبِئْسَ الْكَسْبُ أَكْسَبَهَا- إِذَا أَوْرَثَهَا بِسَعْيِهِ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا‏.‏ فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ لَمَّا أَوَبَقُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْلَكُوهَا، خَاطِبَهُمُ اللَّهُ وَالْعَرَبَ بِالَّذِي يَعْرِفُونَهُ فِي كَلَامِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ بِئْسَ مَا أَكْسَبُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَعْيِهِمْ، وَبِئْسَ الْعِوَضُ اعْتَاضُوا، مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا، إِذْ كَانُوا قَدْ رَضُوا عِوَضًا مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ- لَوْ كَانُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَمَا أَنْـزَلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ- بِالنَّارِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِذَلِكَ‏.‏

وَهَذِهِ الْآيَةُ- وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِيهَا عَنْ حَسَدِ الْيَهُودِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمَهُ مِنَ الْعَرَبِ، مِنْ أَجْلِ أَنِ اللَّهَ جَعَلَ النُّبُوَّةَ وَالْحِكْمَةَ فِيهِمْ دُونَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ بِهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ لِلَّهِ مَبْعُوثٌ وَرَسُولٌ مُرْسَلٌ- نَظِيرُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 54‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْ يُنـزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ ذَكَرْنَا تَأْوِيلَ ذَلِكَ وَبَيَّنَّا مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّا نَذْكُرُ الرِّوَايَةَ بِتَصْحِيحِ مَا قُلْنَا فِيهِ‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بَغْيًا أَنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ مَنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏، أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ فِي غَيْرِهِمْ‏.‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ هُمُ الْيَهُودُ‏.‏ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوْا أَنَّهُ بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَفَرُوا بِهِ- حَسَدًا لِلْعَرَبِ- وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مِثْلَهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ قَالُوا‏:‏ إِنَّمَا كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَا بَالُ هَذَا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ‏؟‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ‏.‏ قَالَ‏:‏ نَـزَلَتْ فِي الْيَهُودِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏، فَرَجَعَتِ الْيَهُودُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ- بَعْدَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِنْصَارِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِفْتَاحِ بِهِ، وَبَعْدَ الَّذِي كَانُوا يُخْبِرُونَ بِهِ النَّاسَ مِنْ قَبْلِ مَبْعَثِهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ- مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ حِينَ بَعْثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا مُرْسَلًا فَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ اسْتَحَقُّوهُ مِنْهُ بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ حِينَ بُعِثَ، وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ، وَإِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَجِدُونَ صِفَتَهُ فِي كِتَابِهِمْ؛ عِنَادًا مِنْهُمْ لَهُ وَبَغْيًا وَحَسَدًا لَهُ وَلِلْعَرَبِ عَلَى غَضَبٍ سَالِفٍ، كَانَ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، سَابِقٍ غَضَبَهُ الثَّانِيَ؛ لِكُفْرِهِمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، أَوْ لِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ذُنُوبٍ كَانَتْ لَهُمْ سَلَفَتْ، يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، فِيمَا رَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏، فَالْغَضَبُ عَلَى الْغَضَبِ، غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانُوا ضَيَّعُوا مِنَ التَّوْرَاةِ وَهِيَ مَعَهُمْ، وَغَضَبٌ بِكُفْرِهِمْ بِهَذَا النَّبِيِّ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ كُفْرٌ بِعِيسَى، وَكُفْرٌ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ كُفْرُهُمْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغَيَّرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ‏:‏ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَنَازِلَ‏:‏ رَجُلٌ كَانَ مُؤْمِنًا بِعِيسَى وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، فَلَهُ أَجْرَانِ‏.‏ وَرَجُلٌ كَانَ كَافِرًا بِعِيسَى فَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَهُ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ كَانَ كَافِرًا بِعِيسَى فَكَفْرَ بِمُحَمَّدٍ، فَبَاءَ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ، وَرَجُلٌ كَانَ كَافِرًا بِعِيسَى مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَمَاتَ بِكُفْرِهِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَاءَ بِغَضَبٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏، غَضِبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وَبِعِيسَى، وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ‏)‏، الْيَهُودُ بِمَا كَانَ مِنْ تَبْدِيلِهِمُ التَّوْرَاةَ قَبْلَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ‏(‏عَلَى غَضَبٍ‏)‏‏:‏ جُحُودِهُمُ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكُفْرِهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِكَفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى، ثُمَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏‏:‏ أَمَّا الْغَضَبُ الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ حِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْعِجْلِ؛ وَأَمَّا الْغَضَبُ الثَّانِي فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ حِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعَطَاءٍ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ غَضِبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ قَبْلِ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ تَبْدِيلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ-، ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ خَرَجَ، فَكَفَرُوا بِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ‏"‏الغَضَبِ‏"‏ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ- وَاخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صِفَتِهِ- فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏، وَلِلْجَاحِدِينَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ، إِمَّا فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ‏(‏مُهِينٌ‏)‏ هُوَ الْمُذِلُّ صَاحِبَهُ، الْمُخْزِي، الْمُلْبِسُهُ هَوَانًا وَذِلَّةً‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ أَيُّ عَذَابٍ هُوَ غَيْرُ مُهِينٍ صَاحِبَهُ، فَيَكُونُ لِلْكَافِرِينَ الْمُهِينُ مِنْهُ‏؟‏‏!‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ الْمَهِينَ هُوَ الَّذِي قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ الْمُورِثُ صَاحِبَهُ ذِلَّةً وَهَوَانًا، الَّذِي يُخَلَّدُ فِيهِ صَاحِبُهُ، لَا يَنْتَقِلُ مِنْ هَوَانِهِ إِلَى عِزٍّ وَكَرَامَةٍ أَبَدًا، وَهُوَ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ‏.‏ وَأَمَّا الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُهِينٍِ صَاحِبَهُ، فَهُوَ مَا كَانَ تَمْحِيصًا لِصَاحِبِهِ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ كَالسَّارِقِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، يَسْرِقُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ الْقَطْعُ فَتُقْطَعُ يَدَهُ، وَالزَّانِي مِنْهُمْ يَزْنِي فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ كَفَّارَاتٍ لِلذُّنُوبِ الَّتِي عُذِّبَ بِهَا أَهْلُهَا، وَكَأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ بِمَقَادِيرِ جَرَائِمِهِمُ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا، لِيُمَحَّصُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ‏!‏ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَذَابًا، فَغَيْرُ مُهِينٍ مَنْ عُذِّبَ بِهِ؛ إِذْ كَانَ تَعْذِيبُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِهِ لِيُمَحِّصَهُ مِنْ آثَامِهِ، ثُمَّ يُورِدُهُ مَعْدِنَ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ، وَيُخَلِّدُهُ فِي نَعِيمِ الْجِنَانِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏)‏، وَإِذَا قِيلَ لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ- لِلَّذِينِ كَانُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ ‏(‏آمَنُوا‏)‏، أَيْ صَدَقُوا، ‏(‏بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ‏)‏، يَعْنِي بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ‏(‏قَالُوا‏:‏ نُؤْمِنُ‏)‏، أَيْ نُصَدِّقُ، ‏(‏بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا‏)‏، يَعْنِي بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْـزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُوسَى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ‏}‏، وَيَجْحَدُونَ، ‏"‏بِمَا وَرَاءَهُ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ بِمَا وَرَاءَ التَّوْرَاةِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ ‏"‏وَرَاءَهُ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِع‏:‏ ‏(‏سِوَى‏)‏، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْحُسْنِ‏:‏ ‏(‏مَا وَرَاءَ هَذَا الْكَلَامِ شَيْءٌ‏)‏ يُرَادُ بِهِ‏:‏ لَيْسَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ شَيْءٌ سِوَى ذَلِكَ الْكَلَامِ‏.‏ فَكَذَلِكَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ‏}‏، أَيْ بِمَا سِوَى التَّوْرَاةِ، وَبِمَا بَعْدَهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَنْـزَلَهَا إِلَى رُسُلِهِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ بِمَا بَعْدَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ‏}‏، أَيْ بِمَا بَعْدَهُ- يَعْنِي‏:‏ بِمَا بَعْدَ التَّوْرَاةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ بِمَا بَعْدَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا‏}‏، أَيْ‏:‏ مَا وَرَاءَ الْكِتَابِ- الَّذِي أُنْـزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْـزَلَهَا اللَّهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ – الْحَقُّ‏:‏ وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْـزَلَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمَنُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ‏}‏، وَهُوَ الْقُرْآنُ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ‏}‏‏.‏ وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ‏)‏؛ لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا‏.‏ فَفِي الْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، مِثْلُ الَّذِي مِنْ ذَلِكَ فِي تَوْرَاةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏ فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْيَهُودِ- إِذْ أَخْبَرَهُمْ عَمَّا وَرَاءَ كِتَابِهِمُ الَّذِي أَنْـزَلَهُ عَلَى مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْـزَلَهَا إِلَى أَنْبِيَائِهِ-‏:‏ إِنَّهُ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِلْكِتَابِ الَّذِي مَعَهُمْ، يَعْنِي‏:‏ أَنَّهُ لَهُ مُوَافِقٌ فِيمَا الْيَهُودُ بِهِ مُكَذِّبُونَ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالتَّوْرَاةِ، عَلَى مَثَلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْإِنْجِيلِ وَالْفَرْقَانِ، عِنَادًا لِلَّهِ، وَخِلَافًا لِأَمْرِهِ، وَبَغْيًا عَلَى رُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ‏}‏، قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِيَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ- الَّذِينَ إِذَا قُلْتَ لَهُمْ‏:‏ آمَنُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا‏:‏ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا-‏:‏ لِمَ تَقْتُلُونَ- إِنْ كُنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ مُؤْمِنِينَ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ- أَنْبِيَاءَهُ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ قَتْلَهُمْ، بَلْ أَمَرَكُمْ فِيهِ بِاتِّبَاعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ‏؟‏ وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا‏}‏ وَتَعْيِيرٌ لَهُمْ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ- وَهُوَ يُعِيرُهُمْ- يَعْنِي الْيَهُودَ‏:‏ ‏{‏فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏؟‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ‏}‏، فَابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَلَى لَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ مَضَى‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ مُخْتَلِفُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ فَلِمَ قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏]‏، أَيْ‏:‏ مَا تَلَتْ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَلَقَـدْ أَمُـرُّ عَـلَى اللَّئِـيمِ يَسُـبُّنِي *** فَمَضَيْـتُ عَنْـهُ وَقُلْـتُ لَا يَعْنِينِـي

يُرِيدُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ أَمُرُّ‏)‏ وَلَقَدْ مَرَرْتُ‏.‏ وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَمَضَيْتُ عَنْهُ‏"‏، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ فَأَمْضِي عَنْهُ‏.‏ وَزَعَمَ أَنَّ ‏"‏فَعَلَ‏"‏ و‏"‏يَفْعِلُ‏"‏ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

وَإِنِّـي لَآتِيكُـمْ تَشَـكُّرَ مَـا مَضَـى *** مِـنَ الْأَمْـرِ، وَاسْـتِيجَابَ مَا كَانَ فِـي غَـدِ

يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَبُقُولُ الْحُطَيْئَةُ‏:‏

شَـهِدَ الْحُطَيْئَـةُ يَـوْمَ يَلْقَـى رَبّـهُ *** أَنَّ الْوَلِيـدَ أَحَـقُّ بِـالْعُذْرِ

يَعْنِي‏:‏ يَشْهَدُ‏.‏ وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ‏:‏

فَمَـا أُضْحِـي وَلَا أَمْسَـيْتُ إِلَّا *** أَرَانِـي مِنْكُـمْ فِـي كَوَّفَـانِ

فَقَالَ‏:‏ أُضْحِي، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏وَلَا أَمْسَيْتُ‏"‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ‏:‏ إِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ‏}‏، فَخَاطَبَهُمْ بِالْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْفِعْلِ، وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي، كَمَا يُعَنِّفُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ فَيَقُولُ لَهُ‏:‏ وَيْحَكَ، لِمْ تَكْذِبُ‏؟‏ وَلِمَ تُبَغِّضُ نَفْسَكَ إِلَى النَّاسِ‏؟‏ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

إِذَا مَـا انْتَسَـبْنَا، لَـمْ تَلِـدْنِي لَئِيمَـةٌ *** وَلَـمْ تَجِـدِي مِـنْ أَنْ تُقِّـرِي بِـهِ بُدَّا

فَالْجَزَاءُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَالْوِلَادَةُ كُلُّهَا قَدْ مَضَتْ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ، فَجَازَ ذَلِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ‏:‏ ‏(‏إِذَا نَظَرَتْ فِي سِيرَةِ عُمْرَ، لَمْ تَجِدْهُ يُسِيءُ‏)‏‏.‏ الْمَعْنَى‏:‏ لَمْ تَجِدْهُ أَسَاءَ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ أَمْرُ عُمْرَ لَا يَشُكُّ فِي مُضِيِّهِ، لَمْ يَقَعْ فِي الْوَهْمِ أَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ؛ فَلِذَلِكَ صَلَحَتْ ‏"‏مِنْ قَبْلُ‏"‏ مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَيْسَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقَتْلِ هُمُ الْقَتَلَةُ، إِنَّمَا قَتَلَ الْأَنْبِيَاءَ أَسْلَافُهُمُ الَّذِينَ مَضَوْا، فَتَوَلَّوْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَضُوا بِهِ، فَنُسِبَ الْقَتْلُ إِلَيْهِمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا، أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ- بِمَا خَاطَبَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ- بِمَا سَلَفَ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَى أَسْلَافِهِمْ، وَبِمَا سَلَفَ مِنْ كُفْرَانِ أَسْلَافِهِمْ نِعَمَهُ، وَارْتِكَابِهِمْ مَعَاصِيَهُ، وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، نَظِيرَ قَوْلِ الْعَرَبِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ‏:‏ فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا، وَفَعَلْتُمْ بِنَا يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا- عَلَى نَحْوِ مَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا-، يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ أَسْلَافَنَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَسْلَافِكُمْ، وَأَنَّ أَوَائِلنَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَوَائِلِكُمْ‏.‏ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ‏}‏، إِذْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ فِعْلِ السَّالِفَيْنَ مِنْهُمْ- عَلَى نَحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا- جَازَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏(‏مِنْ قَبْلُ‏)‏؛ إِذْ كَانَ مَعْنَاهُ‏:‏ قُلْ‏:‏ فَلِمَ يَقْتُلُ أَسْلَافكُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ‏"‏‏؟‏ وَكَانَ مَعْلُومًا بِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ‏}‏، إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ فِعْلِ سَلَفِهِمْ‏.‏

وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مِنْ قَبْلُ‏)‏، أَيْ‏:‏ مِنْ قَبْلِ الْيَوْمِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمَا نَـزَّلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ كَمَا زَعَمْتُمْ‏.‏ وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ الْيَهُودَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْلَافَهُمْ- إِنْ كَانُوا وَكُنْتُمْ، كَمَا تَزْعُمُونَ أَيُّهَا الْيَهُودُ، مُؤْمِنِينَ‏.‏ وَإِنَّمَا عَيَّرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَتْلِ أَوَائِلِهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، عِنْدَ قَوْلِهِمْ حِينَ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏آمِنُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا‏}‏؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لِأَوَائِلِهِمُ- الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَتْلَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، مَعَ قِيْلِهِمْ‏:‏ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا- مُتَوَلِّينَ، وَبِفِعْلِهِمْ رَاضِينَ‏.‏ فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ مُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْكُمْ، فَلِمَ تَتَوَلَّوْنَ قَتَلَةَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ‏؟‏ أَيْ‏:‏ تَرْضَوْنَ أَفْعَالَهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏، أَيْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، كَالْعَصَا الَّتِي تَحَوَّلَتْ ثُعْبَانًا مُبَيِّنًا، وَيَدِهِ الَّتِي أَخْرَجَهَا بَيْضَاءَ لِلنَّاظِرِينَ، وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَمَصِيرِ أَرْضِهِ لَهُ طَرِيقًا يَبَسًا، وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ، وَسَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَتْ صِدْقَهُ وَصِحَّةَ نُبُوَّتِهِ‏.‏

وَإِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ ‏"‏بَيِّنَاتٍ‏"‏ لِتَبَيُّنِهَا لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهَا أَنَّهَا مُعْجِزَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بَشَرٌ، إِلَّا بِتَسْخِيرِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهُ‏.‏ وَإِنَّمَا هِيَ جَمْعُ ‏"‏بَيِّنَةٍ‏"‏، مِثْلِ ‏"‏طَيِّبَةٍ وَطَيِّبَاتٍ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ- يَا مَعْشَرَ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ- مُوسَى بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أَمْرِهِ وَصِدْقِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏(‏ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ‏)‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ‏:‏ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِلَهًا‏.‏ فَالْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏مِنْ بَعْدِهِ‏"‏، مِنْ ذِكْرِ مُوسَى‏.‏ وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، لِأَنَّهُمْ اتَّخَذُوا الْعِجَلَ مِنْ بَعْدِ أَنْ فَارَقَهُمْ مُوسَى مَاضِيًا إِلَى رَبِّهِ لِمَوْعِدِهِ- عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ‏"‏الْهَاءُ‏"‏ الَّتِي فِي‏"‏بَعْدِهِ‏"‏ إِلَى ذِكْرِ الْمَجِيءِ‏.‏ فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ‏.‏ كَمَا تَقُولُ‏:‏ جِئْتَنِي فَكَرِهْتُهُ، يَعْنِي كَرِهْتُ مَجِيئَكَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لَكُمْ، وَعَبَدْتُمْ غَيْرَ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِ اللَّهِ‏.‏ وَهَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ لِلْيَهُودِ، وَتَعْيِيرٌ مِنْهُ لَهُمْ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا- مِنْ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ إِلَهًا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، بَعْدَ الَّذِي عَلِمُوا أَنَّ رَبَّهُمْ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي يَفْعَلُ مِنَ الْأَعَاجِيبِ وَبَدَائِعِ الْأَفْعَالِ مَا أَجْرَاهُ عَلَى يَدَيْ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقَدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ مَعَ بَطْشِهِ وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ، وَقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِمَا عَايَنُوا مِنْ عَجَائِبِ حِكَمِ اللَّهِ- فَهُمْ إِلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُحُودِ مَا فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهَا مُؤْمِنُونَ مِنْ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ، مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَهْدِ مُوسَى مِنَ الْمُدَّةِ – أَسْرَعُ، وَإِلَى التَّكْذِيبِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ أَقْرَبُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ‏)‏، وَاذْكُرُوا إِذْ أَخَذْنَا عُهُودَكُمْ، بِأَنْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ- الَّتِي أَنْـزَلْتُها إِلَيْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنْ أَمْرِي، وَتَنْتَهُوا عَمَّا نَهَيْتُكُمْ فِيهَا- بِجِدٍّ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ وَنَشَاطٍ، فَأَعْطَيْتُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ مِيثَاقَكُمْ، إِذْ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الْجَبَلَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَاسْمَعُوا‏)‏، فَإِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَاسْمَعُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَتَقْبَّلُوهُ بِالطَّاعَةِ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ يَأْمُرُهُ بِالْأَمْرِ‏:‏ ‏(‏سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ‏)‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ سَمِعْتُ قَوْلَكَ، وَأَطَعْتُ أَمْرَكَ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ‏:‏

السَّـمْعُ وَالطَّاعَـةُ وَالتَّسْـلِيمْ *** خَـيْرٌ وَأَعْفَـى لِبَنِـي تَمِيـمْ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏السَّمْعُ‏)‏، قَبُولُ مَا يَسْمَعُ، وَ ‏"‏الطَّاعَةُ‏"‏ لِمَا يُؤْمَرُ‏.‏ فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَاسْمَعُوا‏)‏، اقْبَلُوا مَا سَمِعْتُمْ وَاعْمَلُوا بِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَمَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ أَنْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّة، وَاعْمَلُوا بِمَا سَمِعْتُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ، وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏قَالُوا سَمِعْنَا‏)‏، فَإِنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْخِطَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْنَا، مِنْ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْكَلَامِ، إِذَا كَانَ حِكَايَةً، فَالْعَرَبُ تُخَاطِبُ فِيهِ ثُمَّ تَعُودُ فِيهِ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، وَتُخْبِرُ عَنِ الْغَائِبِ ثُمَّ تُخَاطِبُ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ‏.‏ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ‏}‏، بِمَعْنَى‏:‏ قُلْنَا لَكُمْ، فَأَجَبْتُمُونَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏قَالُوا سَمِعْنَا‏)‏، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ- عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا يَسْمَعُونَ مِنْهَا- أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ‏:‏ سَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَعَصَيْنَا أَمْرَكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ حُبَّ الْعِجْلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ‏}‏، قَالَ‏:‏ أُشْرِبُوا حُبَّهُ، حَتَّى خَلُصَ ذَلِكَ إِلَى قُلُوبِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَشْرَبُوا حُبَّ الْعِجْلِ بِكُفْرِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍعَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَشْرَبُوا حُبَّ الْعِجْلِ فِي قُلُوبِهِمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ سَقَوْا الْمَاءَ الَّذِي ذَرِي فِيهِ سُحَالَة الْعِجْل‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ لِمَا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، أَخَذَ الْعِجْلَ الَّذِي وَجَدَهُمْ عَاكِفِينَ عَلَيْهِ، فَذَبَحَهُ، ثُمَّ حَرَقَهُ بِالْمِبْرَدِ، ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ، فَلَمْ يَبْقَ بَحْرٌ يَوْمئِذٍ يَجْرِي إِلَّا وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ‏.‏ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ اشْرَبُوا مِنْهُ، فَشَرِبُوا مِنْهُ، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّهُ خَرَجَ عَلَى شَارِبِهِ الذَّهَبُ‏.‏ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ لِمَا سُحِلَ فَأُلْقِي فِي الْيَمِّ، اسْتَقْبَلُوا جِرْيَةَ الْمَاء، فَشَرِبُوا حَتَّى مَلَئُوا بُطُونَهُمْ، فَأَوْرَثَ ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ جُبْنًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ‏}‏ تَأْوِيلُ مِنْ قَالَ‏:‏ وَأَشْرَبُوا فِي قُلُوبِهِمْ حُبَّ الْعِجْلِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ أُشْرِبَ فُلَانٌ فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي حُبِّ الشَّيْءِ، فَيُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏أُشْرِبَ قَلْبُ فُلَانٍ حُبَّ كَذَا‏)‏، بِمَعْنَى سَقِيَ ذَلِكَ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ وَخَالَطَ قَلْبَهُ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ‏:‏

فَصَحَـوْتَ عَنْهَـا بَعْـدَ حُـبٍّ دَاخِـلٍ *** وَالْحُـبُّ يُشْـرَبُهُ فُـؤَادُكُ دَاءُ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَلَكِنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ ‏"‏الْحُبِّ‏"‏ اكْتِفَاءً بِفَهْمِ السَّامِعِ لِمَعْنَى الْكَلَامِ‏.‏ إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْعِجْلَ لَا يُشْرِبُ الْقَلْبَ، وَأَنَّ الَّذِي يُشْرِبُ الْقَلْبَ مِنْهُ حُبُّهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 163‏]‏، ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 82‏]‏، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَلَا إِنَّنِـي سُـقِّيتُ أَسْـوَدَ حَالِكًـا *** أَلَا بَجَلِـي مِـنَ الشَّـرَابِ أَلَا بَجَـلْ

يَعْنِي بِذَلِكَ سُمًّا أَسْوَدَ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ‏"‏أَسْوَدَ‏"‏ عَنْ ذِكْرِ ‏"‏السُّمِّ‏"‏ لِمَعَرَّفَةِ السَّامِعِ مَعْنَى مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏سُقِّيْتُ أَسْوَدَ‏)‏‏.‏ وَيُرْوَى‏:‏

أَلَا إِنَّنِي سُقِّيْتُ أَسْوَدَ سَالِخًا ***

وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ‏:‏ ‏(‏إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى السَّخَاءِ فَانْظُرْ إِلَى هَرِمٍ، أَوْ إِلَى حَاتِمٍ‏)‏، فَتَجْتَزِئُ بِذِكْرِ الِاسْمِ مِنْ ذِكْرِ فِعْلِهِ، إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِشَجَاعَةٍ أَوْ سَخَاءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

يَقُولُـونَ جَـاهِدْ يَـا جَـمِيلُ بِغَـزْوَةٍ *** وَإِنَّ جِهَـادًا طَيِّـئٌ وَقِتَالُهَـا

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِيَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ بِئْسَ الشَّيْءُ يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانكُمْ؛ إِنْ كَانَ يَأْمُرُكُمْ بِقَتْلِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ‍ وَالتَّكْذِيبِ بِكُتُبِهِ، وَجَحُودِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ‏.‏ وَمَعْنَى ‏"‏إِيمَانِهِمْ‏"‏‏:‏ تَصْدِيقُهُمُ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُصَدِّقُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، إِذْ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ آمَنُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ، فَقَالُوا‏:‏ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏)‏، أَيْ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ كَمَا زَعَمْتُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ- لِأَنَّ التَّوْرَاةَ تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَتَأْمُرُ بِخِلَافِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ تَصْدِيقَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ، إِنْ كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ، فَبِئْسَ الْأَمْرُ تَأْمُرُ بِهِ‏.‏ وَإِنَّمَا ذَلِكَ نَفْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ التَّوْرَاةِ، أَنْ تَكُونَ تَأْمُرُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ بِهَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ أَهْوَاؤُهُمْ، وَالَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَان‏.‏